الاثنين، 28 مايو 2007




* موفق أحمد

البارود بحيرة حمراء،
العصفور أغنية المساء
يطير، يتكوم دون صوت،
يرسم أشباحاً على أشعة الشمس،
يتنزه في مزبلة العطر،
يرثي المسافات،

بهذه الكلمات التي رشقنا بها ممثلي العرض صالح حسن فارس وسلمان رحيم، بضحكات واهات وهمهمات ودموع حيرى، حركات جسدية بارعة، تكنيك عال، توظيف ذكي للمكان، استعمال اكسسوارات بسيطة، حاوروا الجمهور طيلة 55 دقيقة واقحموه في وحشة الغربة، وضيق المكان، تداعيات وتداعيات أطلق لها فريق العمل العنان لتتلاعب بمخيلة المشاهد وتجعله يطوف بين عالم المرئي والمحسوس وعالم الغيب، في ظل زحام
شديد ملأ المكان بمفردات غير متكررة، كانت رموزا بدأ بها الممثلون مرثيتهم لموت شاعر.
كان أسلوب البدء من النهاية الذي اعتمده المخرج المؤلف اعلانا بأن الشاعر لم يمت بل انه يبدأ معنا رحلة جديدة ويطوف بروحه على المكان ويحاورنا ويتهمنا مع بقية الاشياء.
إن أنقسام شخصية بطل المسرحية الى شخصتين جاء ليؤكد حركة النص وأن للروح حقها أن تتحاور مع نفسها .
هذه هي أحد سمات الاعمال التجريبية في المسرح، على الرغم من ضيق رقعة العرض المسرحي وعدم اتساعه لاكثر من ثلاثين أواربعين مشاهداً الا ان فريق العمل استطاع ان ينجح بدراية في توظيف المكان بشكل مدروس، وهذه ايضاً من ميزات الاعمال
التجريبية، فنص مسرحي كهذا من المحتمل ان يعرض في حمام أومصعد كهربائي أو حديقة صغيرةأو فوق سطح منزل صغيرأو حتى على حبال معلقة في الهواء .
لكن المخرج هنا لم يعتمد مسرح العلبة بالشكل التقليدي بل أعتمد على شكل عرض دائري مفتوح ليقحم بذلك الجمهور داخل العرض المسرحي وليعتمد عليه في تكامل البناء الدرامي للعرض.
نحن نعرف ان لكل حادثة شواهد ومن ضمن الشواهد وحسب تفسير المخرج للنص هو الجمهور، لذلك جعل هنا من هذا المكان الصغيرفرجة، ومن خلال صمت الجمهور وترقبه للحدث اصبحت الفرجة مشاركة بجريمة الموت وترقباً صامتاً لجماليات الفاجعة التي حلت بموت الشاعر بطل الحكاية.
لقد نجح المخرج مرة اخرى في ان يجمع كل عناصر الحكاية بما فيها الجمهور داخل مكان ضيق وبزحام شديد لم نألفه في عروض اخرى، منطلقاً من الاحساس بوحدة العرض، على الرغم من تعددية اداء كل لدوره. انقسم الجمهور الى ضدين فمن كانوا مع النص كانوا مختلفين في معيتهم وكذلك من كانوا ضد النص كانوا اضداداً مختلفة، أما صالح حسن فارس وسلمان رحيم بطلا العرض فقد كان كل واحد منهم يتحول بسرعة مذهلة وشديدة الى مكان محسوب ويلبس قناع شخصية جديدة تصعب على المشاهد العادي متابعتها.
كان الكاتب يتحول بسرعة الى قناص والطالب الى امرأة والطفل الى فيلسوف مهووس والرسام الى جندي والحالم الى ظالم، قد ساعدتهم كثيراً الاكسسوارات التي تعددت انواعها، وكذلك نجح المخرج في تعددية الاستخدام وبنفس سرعة تحول الشخصيات الى شخصيات اخرى فسرعان مايتحول الكرسي من مقعد سيارة الى مقعد دراسي والى مقصلة أو سرير أو سقف يهوي على الارض او جدار يداعب الاطفال بعضهم البعض من خلاله، وكانت الشراشف ايضاً تتحول بنفس السرعة الى ستائرللجريمة أو الى كفن أو راية أو غيوم ممطرة أو قضبان أسر.
وبذلك كله كسر المخرج هواجس الملل البصري التي قد تصيب المشاهد احياناً وهذا طبعاً مقصود كي تتكامل ادعاءات الاتهام للجمهور بتهمة الفرجة.
يقول الفنان صالح حسن فارس:(حين تتراكم اللغة ونشعربحاجة الى الصمت، ويعجز الصمت عن البوح عما نريد، نلجأ الى الكتابة بالجسد على اعتبار ان الجسد هو مجرة من العلامات نطوعه كما نريد من مادة طبيعية الى مادة مصنعة، وهكذا نصرخ بصمت).
وفعلا كان المشاهد يحس بلهاث الممثل ويسمع صوت انفاسه، وكان للصرخات الصامته ايضاً وقع في وجدانه الذي تسامى مع عمق النص وجديته وعلى الرغم من التكنيك الناجح لعرض حركات الجسد والذي نسميه "البدي تكنيك" الا ان المخرج لم يلجأ الى الحركات البهلوانية في الاداء التي شاهدناها في بعض الاعمال الاخرى،وقد كان حريصاً على ان يحافظ على الحس التشكيلي ليتأتى منسجماً مع عناصر العرض الاخرى.
قُدم هذا العمل في وضح النهار ولم يستخدم اجهزة الاضاءة المسرحية، بل أعتمد بشكل مباشركامل على اضاءة الغرفة الاعتيادية والتي اغلبها كان ضوء الشمس القادم من النوافذ، وهذا تأكيد اخر من مؤلف ومخرج العمل على ادانة الجمهور وذلك عندما تكون جريمة موت الشاعر معلومة قبل واثناء حدوثها للجميع، وان احداثها تدور امام اعينهم ويخرق الصراخ الصامت مسامعهم ولاتتحرك انفاسهم بل لايهمسون.
طيلة العرض المسرحي كان النص يدين الجميع بأتهامات الفرجة ولم يجد من يدينه لذا اثر المؤلف ان يخرج من هذا المأزق بأعتبار مهذب ساعده المخرج على ذلك عندما خرج الممثلون خجلين بعد ان خلعا قميصيهما واودعاها على قبر الشاعر الراحل بصرخة صامته .
واجهت هذه المسرحية جمهورها بجرأة شديدة، وهي من أعداد وتمثيل وأخراج الفنان المسرحي العراقي صالح حسن فارس، الذي استدعى لهذا العمل كل معارفه وخبراته الفنية الاكاديمية والحياتية، حين استضافه اتحاد الادباء والكتاب اليمنين14-7-1997.
واخيراً فقد لاحظ الجميع التطور الكبير الذي ظهر على اداء بطلي العرض صالح حسن فارس وسلمان رحيم ، فتحية لكل ابطال العرض، الجمهور، الكاتب، المخرج والممثلين
.


موفق أحمد ...فنان تشكيلي مقيم في هولندا

ليست هناك تعليقات:


نحت للفنان محمد عكله

نحت للفنان محمد عكله